السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رسالة طويلة عنوانها:(عقدة الذنب.. وهوس الخطيئة..!)
جاء في مطلعها:
نتيجة طبيعية لمجتمع شعاره الوعظ؛ هي أن يشعر أفراده أنهم مذنبون طوال الوقت! ويجب أن يتوبوا..
… إلى آخر ما جاء فيها، والسؤال:
وردتني هذه الرسالة أرجو الرد عليها وجزاكم الله خيراً.
الإجابة:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يظهر من مثل هذه الرسائل الاندفاع والحماس غير المنضبط، وخلط كبير يدفع بصاحبه إلى التهوين من بعض العبادات أو إنكار أمر واضح من الدين، بسبب الانزعاج من سلوك بعض الأفراد، و ضعف التمييز بينه وبين الأصل الشرعي.
وقد احتوت هذه المقالة على عدة مغالطات يصعب تناولها بالتفصيل، ولكن سأنبه إلى أصول مهمة تنفي أخطاء هذه الرسالة وغيرها:
أولاً: مذهب أهل السنة والجماعة الجمع بين (الخوف والحب والرجاء) قال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦]، وقال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: ٩٠]، {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: ٥٧].
بل جاء في القرآن العظيم الثناء على من خاف الله وخشيه، والحث على ذلك بشكل لا ينكره إلا جاهل.
من ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦]، {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ٢٧٥]، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: ٢١]، {ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: ٢٨]، {وإياي فارهبون} [البقرة: ٤٠].
وفي ثنائه على الناصحين من قوم موسى، وصفهم بالخوف منه سبحانه الدافع لتلك النصيحة، وسمى ذلك نعمة، قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا...} [المائدة: ٢٣].
وهكذا فالقرآن يتثنى بهذه المعاني، وهذا مقتضى العقل، فلا تستقيم عبودية إلا بالخوف والتعظيم للمعبود.
هذا هو الخوف المحمود بل المطلوب، خوفٌ يدفع للعمل ويكف عن المعصية، لا خوفٌ يقنط العبد من رحمة الله تعالى {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧].
أما "إفراد" الحب بالعبادة؛ فهو دين فلاسفة الصوفية منذ قديم الزمان، وقد تسربت هذه المفاهيم في قوالب متعددة، وصار يعاب على من يأمر بخشية الله تعالى والخوف منه، ويشاع شعار "اعبدوا الله بالحب وحده" وأن الخوف ضد الحب!
وهذا ادعاء باطل، فضِدّ الخوف "الأمن من مكر الله تعالى"، ولا يمكن لمن يحب ربه حق المحبة إلا أن يخشاه ويتقيه ويقف عند حدوده ويبادر لامتثال أمره.
والموازنة بين الخوف والرجاء والحب هي حال الأنبياء والأولياء لا تغليب لجانب على جانب بإطلاق.
ثانياً: التوبة أعظم مقامات العبد وهو مقام يحبه الله تعالى، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: [لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة] (رواه البخاري ومسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله-:
"هذا الفرح من الله بتوبة عبده -مع أنه لم يأْت نظيره في غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها"
والتهوين من شأنها جهل ذريع، ولن يبلغ العبد مبلغ التوبة إلا بشعوره بذنبه واعترافه به بين يدي ربه وخالقه سبحانه،
ولذا كان "سيد الاستغفار" وفيه: (وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وقد أُمر العبد أن يردده صباحاً ومساء حيث إن [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون]. ووعد بالمغفرة من يلتزمه ويموت على ذلك.
وكان من دعاء النبي ﷺ: [اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري..] متفق عليه.
وافتراء أن ذلك من رواسب التأثر بدين النصارى افتراء باطل، لا يقول به إلا من يجهل دينه ويجهل دين النصارى.
ثالثاً: الوعظ باب من أبواب الدين العظيمة {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} [النحل: ١٢٥].وقد وعظنا الله تعالى في كتابه بشكل متكرر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: ١] وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: ١٠٣]
وقام النبي ﷺ واعظاً في عدد من المواطن [وَعَظَنا رسول الله ﷺ موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب] وأمر الله تعالى نبيه بوعظ من حاد عن شرعه، فقال: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: ٦٣].
والوعظ يشمل الترهيب والترغيب، وله آداب وفِقْه، ولابد للقائم به من علم.
وانتقاد تصرفات بعض الناس لا يدعو للسخرية والغمط من أهمية الوعظ.
رابعاً: معرفة الحلال والحرام من آكد الواجبات وأعظم القربات، والتهوين من شأنها تهوين من آيات وأحاديث الأحكام، والامتثال لأمر الله ونهيه الذي هو مقتضى العبودية له سبحانه.
وقد امتدح الله تعالى التفقه في الدين وأمر به، فقال سبحانه: {فلولا نَفَرَ مِن كل فِرْقَةٍ منهم طائفة لِّيَتَفَقَّهُوا في الدين وَلِيُنذِرُوا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: ١٢٢] والآيات في هذا كثيرة، وأمر بالرجوع إلى العلماء، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣]، وأمر بتعليم الناس الخير، فقال ﷺ: [إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير].
ودعوى تسييس الفتوى وربطها بالمصلحة والسلطة، أمر في غاية الجهل والبهتان، قال النبي ﷺ: [العلماء هم ورثة الأنبياء].
والساخر منهم ومن تعليمهم الخير للناس، ساخر من دين الله تعالى على الحقيقة.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
هذا والله أعلم.
المجيب:
أ. هناء بنت حمد النفجان.
باحثة دكتوراه بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
قناة اسأل البيضاء:
https://t.me/ask_albaydha