| صراعات الملاحدة |
( ١ من ٦ )
كنت أشاهد مُناظرة قديمة بين الملحد الشهير ريتشرد دوكنز والملحد الروحاني ديباك تشوبرا عُقدت في المكسيك عام ٢٠١٣ م.
وأثناء تبادل الحجج -والشبهات- بين المشتركَين، تذكرتُ محاضرة لأحد الأفاضل المهتمين بنقد الإلحاد المعاصر، واستشهاده ببعض أقوال ديباك تشوبرا في الرد على رموزه، وكيف أن ذلك الاستشهاد أثار تحفظًا في نفسي، واعتبرتُ ذلك ثغرة منهجية في مسيرة بعضهم في مواجهة الإلحاد.
ثم استحضرتُ أني أستشهد أحيانًا قليلة بقولٍ لدوكنز أو سام هاريس أو مايكل شيرمير لكشف تلبيسات ديباك العلمية والمنهجية ( مع الحرص على بيان انحرافهم ).
وأدركتُ أن هذا الأمر قد يبدو -لأول وهلة- وكأنه نوع من التناقض والتطفيف، فأردتُ أن أبرز الفرق بين الحالتين.
( ٢ من ٦ )
ولكن قبل ذلك – أحب أن أنبه إلى أن اعتراضي ليس متعلقًا بالاستشهاد بأقوال المخالفين بإطلاق، وإنما في حالات مخصوصة لا أعتقدُ أنها تتحقق فيها المصلحة، وإلا فإن كثير من علماء أهل السنة لم يروا بأسًا بسياق قول أحد المخالفين في نقد قول مخالف آخر عند الحاجة.
وقد قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مؤكدًا هذا المعنى:
« وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين، وغيرهم، نقول بجميع ما يقوله في هذا وغيره، ولكن الحق يُقْبل من كل مَنْ تكلم به»
( الفتاوى ٥ / ١٠١ )
أقول ذلك مع ضرورة التفريق بين «قبول الحق من المخالف» وبين «الاستشهاد بقوله» لكن هذا موضوع آخر، لعلي أتناوله في وقتٍ لاحق بإذن الله.
( ٣ من ٦ )
نعود للسؤال عن الفرق بين الاستشهاد بقولٍ لـ دوكينز في نقد ديباك وبين الاستشهاد بقولٍ لـ ديباك في نقد دوكنز؟
سأحاول توضيح سبب التفريق عبر النقاط التالية، وقد اجتهدتُ في صياغتها كشروط تشبه القواعد، يمكن القياس عليها في الحالات المشابهة:
أولاً: علم المتلقي بانحراف المُستشهَد بقوله ووضوحه.
فإلحاد دوكينز و هاريس -مثلاً- ظاهر لأكثر الناس، فهم يُصرّحون بإلحادهم وعدم إيمانهم بالله، بينما إلحاد تشوبرا خفيٌّ مُلتبِس قد يختلط على بعضهم فيجعلونه من جنس «الإيمان»، وهو خطأ شائعٌ تعززه استعاراته لمصطلح «الرب» و «الإله» وغيرها من المصطلحات «الروحانية» وكثرة استخدامها في طرحه، وتزيد الأمر خفاءًا.
فاستشهاد الثقات بأقوال ديباك قد يوهم المتلقي بصحة منهجه في نقد الإلحاد، وتبعثه للاطلاع على كتبه ومقالاته ومحاضراته التي تمتلئ بالإلحاد الخفي، وفي ذلك مفسدة راجحة إن لم تكن متحققة.
( ٤ من ٦ )
ثانيًا: وجود الحاجة للاستشهاد.
فإننا إذا نظرنا إلى الإلحاد المعاصر وجدنا أن أقوال المسلمين -وغيرهم من أهل الأديان – في نقضه متوفرة، وليس عند ديباك -وأمثاله-إضافة حقيقية تُقنع المهتمين ببطلان النظرة المادية، أو بالضرورة الطبيعية للإيمان بالغيب.
بخلاف الردود على الروحانيين، فهي نادرة ومتفرقة -خاصة ما يتعلق بشبهاتهم العلمية- مما يحيجنا للاستفادة من نقد الملاحدة، والاستشهاد بها أحيانًا في بيان الخلل من هذا الجانب.
( ٥ من ٦ )
ثالثًا: وجود المصلحة في الاستشهاد وغلبتها على المفسدة.
لا شك أن أقوال الفريقين في غاية الانحراف، وهي إلحاد وكفر بيّن، ولكن المبادئ التي يقوم عليها كفرهم ليست متماثلة، فالملحد المادي المعاصر يبني إلحاده على منطلقات -يراها- «علمية» ومعطيات مادية محسوسة قابلة -في كثير من الأحيان-للاختبار والمناقشة، فهو -في الجملة- مُطّرد المنهج يُقدّر الدليل والحجة وإن كان انحرف في إسقاطه وتوظيفه وزاغ زيغًا بعيدًا.
ولذلك يقوم كثير من نقده للملاحدة الروحانيين على بيان مخالفة ما يدّعيه رواد الروحانية من الخرافات للقواعد العلمية الصحيحة، وزيف المصطلحات والمبادئ التي يسترقونها لترويج خرافاتهم، فيكشف الماديون حقيقة «التطفل العلمي» لدى أولئك، وتلبيسهم على الناس بـ «العلم الزائف».
وهذه نقطة التقاء مهمة نحتاج إليها في نقد الطرح الروحاني، تكاد تكون ثغرة خالية إلا من إسهامات هؤلاء الملاحدة للأسف.
وفي المقابل، نجد أن النقد الروحاني للإلحاد المعاصر لا يستند إلى أي منطلقات مشتركة، فمنهجهم تلفيقي مضطرب، لا يقوم على علمٍ صحيح ولا على إيمان مستقيم، فمبادؤهم العلمية مزيفة باطلة، وقواعدهم الإيمانية باطنية حدسية منحرفة. فلا توجد نقطة التقاء سليمة يمكن الاستفادة منها في نقد الإلحاد، بل المفسدة في الاستشهاد بأقوالهم -من وجهة نظري- تفوق أي مصلحة مرجوة.
( ٦ من ٦ )
ومع ما سبق، فإن هذا الموضوع لا يزال يحتاج إلى مزيد من البحث والتحرير والضبط، ليتشكل تصور أكثر نضوجًا وإتقانًا، فهذه ليست سوى خواطر مبدئية أحببتُ عرضها لاستحثاث التأمل وتحريك النقاش..
والله أحكم وأعلم..
~ د. هيفاء بنت ناصر الرشيد.