مقالات علمية

وقفات مع برنامج “ومحياي”

د. هيفاء بنت ناصر الرشيد

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: 

فقد اطلعتُ على حلقة من برنامج «ومحياي» الذي يُقدمه (د. وليد فتيحي)، وعنوانها: “الأنا”. فوجدته يُقرر كثيرًا من مبادئ الفلسفة البوذية ومبادئ “زِن” حول الذات و”الإيجو” بتفاصيلها، سواء عَلِم ذلك أو نقله عن غيره بلا علم.  

 

ويمكن تلخيص المقصود في النقاط التالية:  

  • تدور الفلسفة البوذية على موضوع “المعاناة”، حيث ينقل عن بوذا قوله: (أتحدثُ عن شيء، وشيء واحد فقط، المعاناة “دوكا” والطريق إلى التخلص منها)، ويقرر أن سبب المعاناة هو “الأنا” الوهمية.

وهذا المفهوم يؤكده (فتيحي) في برنامجه، حيث يقول: (الأنا هي عدوي الحقيقي، هي مصدر شقائي ومعاناتي).

 

  • الذات أو “الأنا” الوهمية في البوذية هي كل ما يُمثِّل الإنسان في الدنيا، كجسده وأفكاره وأفعاله، و(د. وليد) يوافق ذلك، فيقول: (أنا لست شكلي الخارجي ولا حتى آرائي)، وهذا -مع موافقته للفلسفة الشرقية- يتعارض مع المفهوم الشرعي للنفس، ومدلول “أنا” في اللغة العربية.

فعندما يطلق هذا الضمير في اللغة والشرع يُراد به مجموع الروح والجسد وما يتفرّع عنهما من أفعال وأقوال ومعتقدات، وعلى هذا المفهوم دل النص، وعليه تترتب أحكام الدنيا والآخرة. 

وهنا لا ينبغي الخلط بين عرض الدنيا الزائل، والملذات والملكيات المؤقتة، وبين حقيقة الهوية الذاتية، ومناط المسؤولية الدنيوية والأخروية عند الإجابة على السؤال الفلسفي: “من أنا؟”. 

 

  • تقرر الفلسفة البوذية -والشرقية عمومًا- أن الحقيقة الدفينة في الذات البشرية إنما هي الوجود الكلي المطلق، والذي يُطلق عليه تجوّزًا “الإله”.

فالحقيقة المخبأة في النفس هي الروح “الإلهية” التي تمثل الجانب القدسي للإنسان. وهو ما عبَّر عنه (د. وليد) بقوله: (وكلما غصتُ أكثر وأكثر اقتربتُ من الروح، نفخة الرحمن التي فيّ، واكتشفتُ ذاتي الحقيقية)، وبصفها بأنها: (ترقب، وتعي، وتدرك أن الذات الحقيقية التي تحمل النفخة الربانية أكبر وأعظم وأقدس من أن تُجسد في صورة ذهنية، وقوالب طينية. إنها الذات التي ذكرها الرحمن في قوله: {ونفختُ فيه من روحي})

وأقوال العلماء في هذه الآية وتحرير النسبة أشهر من أن تُذكر. 

 

  • إن الحقيقة المغيبة عند البوذيين هي صفاء ونقاء مطلق،  لأنها هي المبدأ السامي عندهم. 

ويحاول (فتيحي) الجمع بين هذا المفهوم الشرقي ومصطلح الروح الشرعي، فيخطئ في تصوره أن “روح” كل إنسان خيرة نقية؛ لأنها “من الله”، بل قد ثبت بالشرع أن من الأرواح ما هو خبيث، ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: [وإنّ الكافر إذا خرجت روحه -وذكر من نتنها، وذكر لعناً- ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض]. 

 

  • تقوم الفلسفة البوذية على عقيدة وحدة الوجود، وأن التعدد والانفصال وهمٌ تعززه الـ “أنا” الوهمية، ويتحدث (د. وليد) بمصطلحات وتعبيرات مُشكلة، خاصة في هذا السياق المشتبه، تظهر عليها لوثات القراءة المتعمقة في الروحانيات الحديثة القائمة على المعتقدات الشرقية، فيعبرعن الإنسان بأنه: (جزء لا يتجزأ من منظومة كونية)، ويقول: (أدركتُ أن الأنا هي التي أنستنا أننا جميعًا خلقنا من نفس واحدة، أننا جزء من تدبير كون متقن بديع). ويقول أيضًا: (الأنا أوهمتنا أننا منفصلون عن بعضنا).

ولا شك أن هذه التعبيرات مجملة، تحتمل معنى حق ومعنى باطل، ولكنها في هذا السياق ومع استحضار طرح المتحدث في مواطن أخرى وإلى المراجع التي استقى منها صاحب البرنامج الفكرة تحتاج إلى تأمل جاد.

 

  • يعتقد البوذيون أن هناك مرحلتان للاستنارة أو “النيرفانا”، صغرى تحدث في الحياة، وكبرى تحدث بالموت. وتتمثل النيرفانا التي في الحياة بالتخلص من “الأنا” الوهمية وتجاوزها إلى حالة “البوذا” أو الإشراق/ الاستنارة.

 ويعبّر (د. فتيحي) عن معنى شبيه لهذا، بقوله: (إن سر الحياة هو أن تموت قبل أن تموت،  لتدرك أنه ليس من موت، أي أنني أميت هذه الأنا في قلبي في هذه الدنيا)

 

  • يعيش عامة الناس برأي البوذية في غفلة وانعدام وعي بحقيقتهم المطلقة، فيظنون أنهم هذه الأجساد والصفات المحدودة بينما هم -باعتقادهم- حقيقة مطلقة سامية أو “إله” إن صحّ التعبير. وخاصة البشر ممن حصلت لهم اليقظة والاستنارة هم من يُدرك الحقيقة الخفية ووحدة الوجود.

ويظهر تأثر بهذه الفلسفة (د. وليد) “أو مجرد نقله لها” في قوله: (حالة اللاوعي التي يعيشها الإنسان اليوم ستؤدي -لا محالة- إلى مزيد من القتل والتدمير، إلا أن يستيقظ الوعي البشري، فنعي وندرك بذواتنا الحقيقية أننا خلقنا من نفس واحدة، بنفخة ربانية، وأننا كائنات روحانية في قوالب طينية، وتجارب أرضية، وأن ارتباط مصائرنا ببعضنا قضية حتمية، محكمة بسنن ربانية).

أختم ما سبق بالإشارة إلى أن المطّلع على مبادئ الفلسفة الشرقية، والقارئ لكتب رواد “الروحانية” الحديثة وخاصة الملحد الألماني: إكهارت تولي، يدرك -دون شك- أن ما ذُكر في هذا البرنامج لا يكاد يعدو كونه ترجمة حرفية لكتاباته مع تطعيم بالآيات والأحاديث في غير مواضعها مما لا يزيد الطين إلا بلة، ولا الباطل إلا التباسًا.

 

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

۱٤٣٨هـ


*هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يمثل – بالضرورة – رأي الناشر.

 

المقالات الأخيرة