مقدمة:
تفاديتُ موضوع التنجيم لفترة طويلة؛ ويعود ذلك -غالبًا- إلى ذات الأسباب التي أدت إلى تأخير مواجهتي لبعض الأشخاص مثل: “Hoagland” وادعاءاته حول كوكب المريخ (ادعى أن صورة المريخ التي تظهر بما يشبه وجه الإنسان هي لتمثال ضخم تحيط به أهرامات).
هناك الكثير من الأفكار السخيفة المرتبطة بموضوع التنجيم، والتي يصعب التعامل معها بشكل سطحي فإما البقاء خارج الموضوع، أو الخوض فيه بعمق، وقد حان الوقت لمعالجة موضوع التنجيم الشائك. لماذا الآن؟ لأنني انتظرت وقتًا طويلاً، ويبدو أنه من الخطأ تجنب الحديث عن أسوأ علم يتعلق بالفلك: التنجيم.
ومن جهة أخرى فقد كتبتُ مقالًا عن التنجيم لمجلة (Night Sky)، وناقشتُ مع المحرر آلية القيام بذلك، وأراد مني التركيز على الأبراج الرائجة في الصحف مثلًا، وكان ذلك مناسبًا للمجلة، لكنه لم يصل للعمق الذي أردتُه في موضوع التنجيم؛ وهو ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة، وأهدف فيها إلى الكشف عن أن التنجيم علم مزيَّف.
ركائز علمية: ما هو التنجيم؟
في الواقع هذا سؤال صعب؛ فالتنجيم متعدد الأنواع: العلامات الشمسية (الأبراج)، والفيدية (تنجيم هندوسي الأصل)، والتنجيم البدائي (طريقة للتوجه الكوني مهتمة بعلم النفس والعلاقة البشرية بالنجوم)، وناتال (علم تنجيم الولادة)، وهوراري (تنجيم للرد على أسئلة معينة)، وغيرها من أنواع التنجيم التي يبدو أنها تفوق عدد النجوم في السماء.
إن بعض الادعاءات المقدَّمة متناقضة بطبيعتها؛ فبعضها يدَّعي أهمية وقت ولادة الشخص، وبعضها الآخر يدعي أهمية الشهر، وغير ذلك… ولكنها متفقة على العمل وفقًا لافتراض واسع جدًا؛ وهو أن هناك نوعًا من القوة المؤثرة من السماء على الأرض! وقد وُصِفَتْ هذه القوة بالعديد من الصفات، فمنهم من قال إنها (الجاذبية الأرضية)، ومنهم من قال إنها (قوة كهرومغناطيسية)، وقال آخرون إنها (قوة لا يمكن قياسها)، ومحل الاتفاق بينهم هو وجود تأثير للكواكب والنجوم على البشر.
فلو كان هناك تأثير حقيقي لأمكن قياسه، كما هو معهود في تعريف الأثر والمؤثر، وقد لا يمكننا قياسه على أساس فردي؛ ولكن يمكننا قياس تأثيره إحصائيًا، أو بتعبير آخر: لا يمكن إظهار التأثير على الفرد، ولكن يمكن إظهاره على مجموعات من الناس، كأن أقول مثلًا “إنني لا أستطيع أن أعرف كيف سيكون الطقس بعد عشر سنوات من اليوم، ولكن هناك احتمال كبير أن يكون الجو صافيًا ومشمسًا في ذلك اليوم”، ولكن حتى هذا يمكن قياسه باستخدام الإحصائيات، ويمكن اختبار مثل هذه التنبؤات للتأكد من دقتها.
لنرى أولًا إن كان للكواكب والنجوم أي تأثير كما يدعي المنجمون، وبعد أن أوضح لك أنه ليس لها أي تأثير -بل لا يمكن أن يكون لها تأثير على الصفة التي يدعونها- سنلقي نظرة على ما يدعيه المنجمون من وجود نتائج قابلة للقياس. (سأعطيك تلميحًا: إنهم مخطئون)، ثم سأختم وأتحدث قليلاً عن التأثير الحقيقي لعلم التنجيم، وكيف يُضعف قدرة الناس على التفكير بوضوح.
مهزلة الطبيعة:
دعونا نفترض -جدلًا- أن للكواكب قوة تؤثر علينا في الأرض. ماذا يمكن أن تكون؟ خياراتنا في الجواب محدودة؛ لأن الكواكب كرات كبيرة من الجليد والصخور والمعادن وأشياء أخرى. وقدرة الكواكب على التأثير علينا ضعيفة؛ لأنها بعيدة جدًا عن الأرض. ووفقًا لما توصل إليه من العلم، هناك أربع قوى أساسية فقط:
- الجاذبية.
- والكهرومغناطيسية.
- وقوتان تسمى إحداهما: القوية والأخرى الضعيفة، وهاتان القوتان تعملان فقط على مستوى نوى الذرات والجسيمات دون الذرية. ومن الصعب إثبات إمكانية تأثير هذه القوى على الأرض على نطاق عياني؛ لأن القوة القوية تضعف وتتضاءل بسرعة كبيرة مع المسافة حتى تختفي على بعد بضعة أجزاء من المليار من المتر من المصدر!
فلم يبق معنا إلا قوتان: الجاذبية والكهرومغناطيسية، وسننظر بإيجاز إلى كل منهما: لدينا معرفة جيدة عن آلية عمل الجاذبية على المقاييس الكبيرة مثل: (مقاييس النظام الشمسي).
تعتمد جاذبية الجسم بشكل أساسي على شيئين: مقدار كتلته، ومدى بُعده، فكلما زادت كتلة الجسم زادت جاذبيته، وكلما اقتربنا منه زاد تأثير جاذبيته علينا.
كل هذا جيد، لكننا نحتاج إلى وضع أرقام لتحليلها، لماذا؟ لأن كوكب المشتري -على سبيل المثال- له كتلة قرابة (۲٥.۰۰۰) ضعف كتلة القمر، وهذا كثير لكنه أيضًا يبعد عن الأرض بحوالي (۱٥۰۰) ضعف المسافة التي يبعدها القمر عن الأرض. فأيُّ الرقمين يفوز في لعبة الجاذبية؟ في هذه الحالة تفوز المسافة.
وباختصار تمثل جاذبية الكواكب في النظام الشمسي جزءًا صغيرًا مقارنة بجاذبية القمر، فإذا كانت الجاذبية هي القوة الكامنة وراء علم التنجيم، فمن المفترض أن يهيمن القمر على جميع الكواكب مجتمعة، لكنه -في الواقع- ليس مهيمنًا في أي من أبراج المنجمين؛ ومن ذلك نستنتج أن القوة المؤثرة ليست هي الجاذبية.
فهل يمكن أن تكون القوة المؤثرة هي الكهرومغناطيسية؟
تعتمد الجاذبية على الكتلة والمسافة، وتعتمد الكهرومغناطيسية على الشحنة الكهربائية والمسافة. المشكلة هنا: أن معظم الأجسام الكبيرة لا تحتوي على شحنة كهربائية!
تأتي الشحنات الكهربائية من الجسيمات المشحونة مثل: الإلكترونات والبروتونات. لكن الشحنات المعاكسة تجذب بعضها بعضًا، إلى درجة أنه من النادر جدًا العثور على إحداهما دون أن تكون الأخرى قريبة منها، وهذا يعني أن الكواكب معتدلة كهربائيًا بشكل عام.
ورغم أن بعض الكواكب لديها مجالات أو حقول مغناطيسية، إلا أن هذه الحقول لا تكون قوية إلا بالقرب من الكوكب الأصلي.
كوكب المشتري -مثلًا- لديه حقل هائل الحجم إلا إنه ليس له تأثير حقيقي على الأرض؛ لأنه يبعد مسافة كبيرة جدًا. علاوة على ذلك، تعد الشمس أكبر مصدر كهرومغناطيسي في النظام الشمسي، ومجالها المغناطيسي يؤثر على الأرض بشكل مباشر، وعندما يكون هناك توهج هائل أو انفجارات أخرى على سطح الشمس يتم إرسال تيارات هائلة من الجسيمات المشحونة، وقد تتفاعل هذه التيارات مع المجال المغناطيسي للأرض، مما يسبب الفوضى كما حصل في عام ۱۹۸۹م، حيث تسبب مثل هذا الحدث في انقطاع التيار الكهربائي في كيبيك؛ لذلك كان ينبغي أن تكون الشمس هي المصدر الوحيد للتأثيرات الفلكية لو كان هناك مؤثر حقيقي في علم التنجيم! ومع ذلك يميل المنجمون إلى تجاهلها، أو لا يزالون يمنحون الكواكب نصيب الأسد من التأثير الفلكي على الأرض، وفي الحالتين: قوة الكواكب مجتمعة تعتبر صغيرة جدًا مقارنةً بقوة الشمس، وعليه لو كانت الكهرومغناطيسية هي القوة المؤثرة في علم التنجيم، لأمكننا تجاهل الكواكب بكل بساطة.
وإذا كانت الجاذبية هي القوة المؤثرة في التنجيم لكان القمر هو المسيطر، لكنه ليس كذلك، ولو كانت الكهرومغناطيسية هي القوة المؤثرة لكانت الشمس مهيمنة، لكنها ليست كذلك. فلم تبق قوة أخرى!
الأمل الوحيد للمنجمين هو فرض قوة أخرى غير معروفة في المجال العلمي. وسيبقى الأمل قاتمًا بالفعل، فلماذا؟!
من المعلوم أن القوة تتضاءل مع بُعد المسافة، والجسم البعيد لديه قوة أقل تأثيرًا عليك من شيء أقرب منك، ومع ذلك يدَّعي المنجمون أن جميع الكواكب لها تأثير متساوٍ في القوة أو متقارب على الأقل؛ بمعنى أن كلًّا من كوكب الزهرة القريب وبلوتو البعيد يملكان تأثيرًا ما على حياتك، أو قوةً يمكن أن تؤثر على حياتك بطريقة ما، وهذا يعني -ومن خلال ادعاءات المنجمين أنفسهم- أن المسافة ليست عاملاً معتبرًا في هذه القوة المؤثرة! ومن الواضح أيضًا أن الكتلة كذلك ليست عاملًا معتبرًا في هذه القوة؛ وإلا فإن المشتري سيهيمن على الكواكب، وسيتم استبعاد كوكب عطارد الصغير!
لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا! فماذا عن الكويكبات التي هي قطع من الصخور والمعادن تدور حول الشمس جنبًا إلى جنب مع الكواكب؟ معظم الكويكبات أقرب إلى الأرض من الكواكب الخارجية، لذلك ينبغي أن يكون لها بعض التأثير، ولكن المسافة ليست مهمة بالنسبة للمنجمين. المشكلة هي أن هناك الكثير والكثير من الكويكبات، إذ يوجد أكثر من مليار كويكب في النظام الشمسي يزيد قطره عن (۱۰۰ متر)، فلماذا لا يدرجها المنجمون في أبراجهم؟
ويزداد الأمر سوءًا بالنسبة لعلم التنجيم؛ فقد وجد علماء الفلك ما يقارب (۱٥۰) كوكبًا تدور حول نجوم أخرى، فيجب أن تؤثر هذه الكواكب على الأرض أيضًا -نعم هذه الكواكب بعيدة جدًا، لكن المسافة غير مؤثرة عند المنجمين-، وهذه هي الكواكب الــمُكتَشفة حتى الآن، وبالنظر إلى العدد الذي تم اكتشافه منها، وأنواع النجوم التي تدور حولها، فمن المنطقي أن نفترض أن هناك مليارات من هذه الكواكب في مجرتنا وحدها، وهي منتشرة في كل مكان؛ فلماذا لا يدرجها المنجمون في أبراجهم؟
إشكال آخر: يمكن لعلماء الفلك -العلماء الحقيقيون- إثبات أن الكواكب موجودة من خلال تأثيرها الحقيقي على نجومها الأم، فإذا كانت هذه الكواكب مؤثرة على الأرض كما يدعي المنجمون وفقًا لقواعدهم الخاصة لماذا لم يتنبؤوا بوجودها؟ ولماذا لم يذكر أي من المنجمين قبل ٥٠ عامًا أنه وفقًا للمعطيات الخاصة بالتنجيم يجب أن تكون هناك كواكب حول نجوم أخرى؟ لم يفعلوا ذلك لأنهم لا يستطيعون، ولأن المعطيات لا معنى لها.
ومرة أخرى -وفقًا للقواعد التي يستخدمها المنجمون- ستتغلَّب كل تلك الكواكب ببساطة على كواكب النظام الشمسي، وتزيل آثارها مثلما يطغى صوت الانفجار النووي على صوت الهمس! أكرر هذا لأنه مهم: نحن نحلل المسألة وفقًا للقواعد التي يدعيها المنجمون أنفسهم، فإما أن تكون هناك:
- قوة معروفة: وقد أظهرنا أن تأثيرها لا يتوافق مع علم التنجيم.
- أو قوة غير معروفة لا تلتزم بقوانين الفيزياء: وفي هذه الحالة ستهيمن الكويكبات والكواكب خارج المجموعة الشمسية على علم التنجيم، وتزيل التأثير الناتج من كواكب النظام الشمسي.
وبناء على ذلك: لا يمكن أن تكون هناك قوة معروفة، ولا قوة غير معروفة؛ وهذا لا يترك لنا إلَّا سبيل الاعتراف بأن التنجيم أكذوبة!
الثقة بما يفتقر إلى الدقة والمصداقية:
تحدثتُ إلى العديد من الأشخاص الذين يزعمون أن أبراجهم دقيقة، فيقولون إن أبراجهم تتنبأ لهم بأمر ما، ويتحقق بشكل دائم، وهناك العديد من الأخطاء المنطقية المحتملة هنا:
أولًا: هل كان التنبؤ دقيقًا حقًا؟ هل قال شيئًا مثل: “ستجني المال اليوم” فوجدت ربع دولار على الأرض؟ أم كان شيئًا محددًا، مثل: “ستجد ربع دولار على الأرض”؟ الفرق بين الأمرين هو: أن التنبؤ بأمر معينٍ نادرًا ما يكون صحيحًا، بينما يندر أن يكون التنبؤ المبهم خاطئًا.
ثانيًا: هل كان كل ما ذكر في هذا البرج صحيحًا؟ هل اتصل بك صديق قديم؟ هل تمكنت من حل مشكلة شائكة اليوم؟ هل وجدت الحب حقًا اليوم؟ بمعنى آخر: كم عدد التنبؤات التي كانت دقيقة، وكم عدد التنبؤات التي لم تكن كذلك؟ يميل الناس إلى تذكر الصواب ونسيان الخطأ، وهذا بالضبط ما يجعل الوسطاء الروحيين مثل: (جون إدوارد John Edwarde)، و (جيمس فان براغ James van Praagh) يشتهرون.
قدم صديقي (جيمس راندي James Randi) عرضًا توضيحيًا رائعًا عن مدى سهولة خداع الناس من خلال علم التنجيم؛ حيث ذهب متنكرًا في صورة منجم إلى أحد الفصول الدراسية، ثم وزع الأبراج على الطلاب، وطلب منهم قراءتها وتقييم دقتها، صنف غالبية الطلاب الأبراج على أنها دقيقة، ثم أمرهم بتمرير الأبراج فيما بنيهم، وكانت المفاجأة هي أن الأبراج جميعها متماثلة، وكانوا جميعًا يقرؤون التوقعات نفسها، حيث صيغتْ بشكل مبهم لدرجة كافية حتى اعتقد كل شخص في الغرفة أن ورقته وصفته بشكل جيد! فصياغة الأبراج بشكلٍ مبهمٍ جعلتها تنطبق على الجميع تقريبًا، وبالتالي كانت قوته التنبؤية بلا معنى وليست صحيحة، بل كان الأمر كله نتيجة اعتقاد الطلاب بصحتها.
يعتمد المنجمون على عدم قدرتنا على التذكر في حال خطئهم، كما يعتمدون على قدرتنا التي لا تخطئ -غالبًا- في رؤية الأنماط في ضوضاء عشوائية، بتعبير آخر: أن نستخرج وصفًا فضفاضًا يشبه -ولو قليلًا- ما نملكه من صفات. وقد ذكر لي صديق أن أحد المنجمين قام بتنبؤ دقيق بشكل مذهل عنه قائلًا: “إنه كسر ساقه قبل بضع سنوات”، قد يكون ذلك أمرًا مذهلًا حقًا، إلا أن صديقًا آخر يعمل في مجال الخدع المسرحية يعرف باسم (باناشيك Banachek) أخبرني أنه قام بأداء مذهل على المسرح، حيث قام بتخمين الأرقام التي يفكر فيها الناس وهو معصوب العينين، ويخمن بدقة البطاقات التي يحملها الناس، وقد ذكر في أحد الاجتماعات للمشككين في التنجيم أنه يسأل من حين لآخر جمهوره عما إذا كان أي شخص بين الجمهور قد تعرض لصاعقة. بالطبع، إنه لا يتنبأ حقًا بذلك، ولكن إذا أصيب شخص ما في الجمهور بالصاعقة، فسيعتقدون أنه بالتأكيد كذلك! تخيل احتمالات الإصابة بالصحة في هذا التخمين!
تكمن المشكلة هنا في أن الاحتمالات تقترب من الصحة عند توجيه السؤال إلى عدد كبير من الناس، فإذا لم يجبه أحد، فإنه يمضي في عرضه المسرحي بلا تأثير سلبي. أذكر أنه عندما فعل تلك الحيلة وكنت بين الجمهور، ابتسمت بسخرية لأني تذكرت أنني أعرف شخصًا أصيب ببرق ذات مرة؛ فإذا كنتُ فردًا عشوائيًا من الجمهور، هل كنت سأصنف ذلك على أنه تنبؤ صحيح يدل على مصداقيته؟ بالتأكيد: نعم.
ما ينبغي التنويه إليه: إن التخمين العشوائي من قبل المنجم -وإن كان صحيحًا- قد يكون بلا معنى أو صحة أو فائدة. فكم مرة قال شيئًا مشابهًا لشخص آخر وأنكره؟ عندما يتم التحقيق عن كثب، وبعقل فاحص، نجد أن ادعاءات المنجمين هي مجرد دخان ومرايا. وإليك مزيد بيان.
الأسباب وبطلانها:
كما أوضحت سابقًا: لا يمكن أن تكون هناك قوة فلكية مؤثرة علينا، بغض النظر عن آلية عملها، والأدلة تتعارض مع ذلك الادعاء.
كثير من الادعاءات التنجيمية -حتى الدقيقة منها- قد لا تكون أكثر من حيل كحيل خفة اليد، ولا يعني ذلك أنه الإثبات الوحيد لخرافة وكذب علم التنجيم، فهناك شيء آخر يظهر أن علم التنجيم كلام فارغ:
لنفرض -جدلًا- أنه رغم كل الأدلة العلمية ضدَّه: هناك تأثير حقيقي علينا من الكواكب، فإن كان هذا التأثير حقيقيًا، يجب أن يكون قابلاً للقياس، ولكي يتمكن المنجمون من استخدامه للتنبؤ بالأبراج، يجب أن تكون ادعاءاتهم ثابتة وليست متغيرة، أي: متسقة. وفي نهاية المطاف إذا كانت القوة لا يمكن قياسها فلا يمكن أن يكون لها تأثير علينا، وإذا قال المنجمون إن مثل هذه القوة موجودة، فيجب أن تستند جميع ادعاءاتهم إلى تلك القوة، ويجب أن تكون متسقة ومتوافقة مع بعضها بعضًا.
ولكن النتيجة هي أن ادعاءات المنجمين ليست متفقة، حتى إنها تتناقض في المصدر الواحد أحيانًا! ويمكن أن أورد أمثلة لا حصر لها بأن أبراج التنجيم التي تحمل الأبراج الشمسية -من النوع الذي تراه في جريدتك- غير متسقة تمامًا مع بعضها بعضًا، ويمكنني التحدث عن مصطلح فلكي يسمى (الاستباقية)، والذي يوضح أن علم التنجيم بالأبراج الشمسية باطل! على أي حال نصيحتي لك لا تزعج نفسك بها؛ لأن كل هذه الأمور مجرد مشغلات، لأن المنجمون سيأتون دائمًا بعذر واهٍ حول آلية إثبات صحة ادعاءاتهم، ويدَّعي كل واحد منهم أن ادعاء المنجم الآخر باطل.
خلاصة القول: يدَّعي المنجمون أنهم حصلوا على نتائج متسقة، وقد أجريت دراسات واختبارات وتجارب للتحقق من هذا الادعاء، نتج عنها أن ادعاءات المنجمين خاطئة، كيف عرفتُ ذلك؟ قرأت ورقة بحثية رائعة، بُحثَت بدقة وتوثيقٍ جيدٍ ومراجع، وأظهرت بدقة أين فشل التنجيم في جميع اختباراته، كانت هذه الورقة بعنوان (هل علم التنجيم مرتبط بالوعي والـ Psi؟) للباحثين: (جيفري دين Geoffrey Dean) الذي بحث في علم التنجيم لفترة طويلة، (وإيفان كيلي Ivan Kelly) أستاذ علم النفس التربوي والتربية الخاصة بجامعة ساسكاتشوان.
دحضت الورقة الادعاءات المثبتَةِ تأثيرَ علم التنجيم، وهم لا ينظرون في الدراسات المباشرة لعلم التنجيم فحسب، بل في الدراسات الوصفية؛ وهي الاختبارات التي يتم تجميعها معًا لتحسين الإحصائيات، وهي طريقة قوية جدًا تمكن الباحثين من استخراج بيانات ذات جودة أفضل بكثير من الاختبارات التي تعتبر حدًا فرديًا بحيث لا تعطي قيمة جيدة في النتائج.
ورد في ملخص الورقة: تم إجراء العديد من الاختبارات على المنجمين منذ الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، ولكن لم يكن من الممكن إجراء مراجعة شاملة إلا مؤخرًا، إذ أُجري اختبار واسع النطاق على أشخاص ولدوا بفارق أقل من خمس دقائق ولم تظهر أي إشارة إلى أوجه التشابه التي تنبأ بها علم التنجيم.
يشير التحليل البعدي لأكثر من أربعين دراسة خاضعة للتحكيم إلى أن المنجمين غير قادرين على تقديم نتائج أفضل بكثير من نسبة الصدفة حتى في التنبؤ بالأمور الأساسية في شخصية الإنسان، مثل التنبؤ بكونه اجتماعي الطبع، وبدقة أكثر المنجمون الذين يدَّعون استخدام القدرة النفسية ليسوا أفضل من أولئك الذين لا يفعلون ذلك. بعبارة أخرى: التنجيم باطل.
وقد ذكروا بالتفصيل حالات لأشخاص ولدوا في أوقات ومواقع قريبة جدًا، تم تسميتهم بـ (توأم زمني) مثلًا: طفلان ولدا بفارق دقائق في المستشفى نفسه. يتنبأ المنجمون بالعديد من أوجه التشابه بين التوائم الزمنية، ولكن كما قال (دين وكيلي Dean and Kelly) بإيجاز شديد: “لم تكن أوجه التشابه القوية التي تنبأ بها علم التنجيم موجودة”.
وتقوم الورقة بتحليل دقيق للغاية للدراسات، وتناقش بعناية شديدة أي خلل قد يثيره المنجمون كاستخدامهم التعريف الخاص بهم (التوأم الزمني). ببساطة: كانت تلك الوُريقَة مدمرة لعلم التنجيم.
كتب (إيفان كيلي Ivan Kelly) ورقة أخرى بعنوان (مفاهيم علم التنجيم الحديث: نقد) تناقش الأسس وراء التنجيم وادعاءاته، وهي أيضًا مدمرة في استنتاجاتها، يقول (كيلي Kelly): “يمكننا أن نستنتج أن علم التنجيم ليس مصدرًا موثوقًا للمعلومات أو المعرفة عن أنفسنا، علم التنجيم جزء من ماضينا، لكن المنجمين لم يعطوا سببًا معقولًا لماذا يجب أن يكون له دور في مستقبلنا”.
دعوة علم التنجيم للأذى:
أين الضرر في علم التنجيم إذا كان علمًا باطلًا لا صحة فيه؟
أولًا: يُقدَّر أن مئات الملايين من الدولارات تُنفق على التنجيم كل عام في الولايات المتحدة وحدها، وهذا إسراف وتبذير للمال على شيء لا ينفع ولا صحة فيه.
ثانيًا: يروِّج علم التنجيم لأسوأ شيء في العالم، وهو: (التفكير غير الناقد)، إذ يعلّم الناس أن يتقبلوا ببساطة القصص والإشاعات والبيانات المنتقاة بعناية؛ حيث تنتقي انتقاء ما يدعم ادعاءاتك وتتجاهل ما لا يدعمها، وكذلك يجعل الناس يقبلون الأكاذيب الجامحة، مما يصعب عليهم التفكير بوضوح ونقد، وإذا كنت لا تستطيع التفكير بوضوح، فلا يمكنك أن تعمل كإنسان.
التفكير غير النقدي يمزق هذا العالم إربًا، وبالرغم من أن علم التنجيم ليس هو السبب الرئيس لذلك إلا أن له دوره بلا شك.
ثالثًا: وهو الأمر الذي يزعجني شخصيًا: علم التنجيم يأخذ من العظمة الحقيقية للكون؛ نحن نعيش في مكان رائع، هذا الكون الذي نعيش فيه رائع بما فيه الكفاية دون الحاجة إلى اختلاق الناس أمورًا حوله! إن علم التنجيم يخفف جمال الطبيعة ويقلل من قيمتها، وقد يخطر على بالك أن وجوده في الصحف يعطيه مصداقية، لكنهم يضعونه بجانب الرسوم الهزلية، أليس كذلك؟ ما مدى جدية الصحف إذن؟
جوابي هو: إذا لم تأخذ الصحف الأبراج على محمل الجد، فعليها ألا تنشرها في المقام الأول. يعرف الناس أن الرسوم الهزلية ليست حقيقية، ولكن لا يفهم الجميع أن التنجيم يتمتع بقدر من الشرعية مثل الشخصية الهزلية (بلوندي وداغوود Blondie and Dagwood)! ومعظم الصحف في هذا البلد لا تحتوي حتى على قسم علمي، والعلم مهم لحياتنا اليومية، أنت تقرأ هذا من خلال الكمبيوتر، أليس كذلك؟ هل ترتدي نظارات أو ملابس، هل تنظف أسنانك وتتناول الأدوية، وهل تستثمر في أسهم التكنولوجيا، هل تقوم بقيادة السيارة؟ رغم دور العلم في كل هذه الأشياء، إلا أننا لا نجد في الصحف قسم علمي، لكنهم ينشرون الأبراج!
في الثمانينيات من القرن الماضي، قامت (نانسي ريغان Nancy Reagan) زوجة رئيس الولايات المتحدة آنذاك باستشارة أحد المنجمين للتأكد من أن الاجتماعات قد تم التخطيط لها في تواريخ ميمونة من الناحية التنجيمية، ووافق زوجها على ذلك. أفما زلت تعتقد أن هذا الأمر لا يضر؟ يمكن القول إن أقوى رجل في العالم بنى تقويمه وجدول أعماله على مزاعم عشوائية غير علمية لا أساس لها من بائع متجول. آمل أن يكون موقفي واضحًا.
خلاصة:
إليك النقاط الرئيسة في هذه المقالة:
- لا توجد قوة معروفة أو غير معروفة يمكن أن تؤثر علينا في الأرض كما يدعي المنجمون، القوى المعروفة لدينا تضعف بسرعة كبيرة، مما يترك مصدرًا واحدًا يهيمن على الأرض وهو جاذبية القمر والكهرومغناطيسية للشمس، وإذا كان التأثير من قوة غير معروفة لدينا فإن الكويكبات والكواكب خارج المجموعة الشمسية سوف تطغى تمامًا على الكواكب القريبة.
- يميل المنجمون إلى الاعتماد على قدرتنا على تذكر التنبؤات الصحيحة ونسيان الأخطاء، وحتى التنبؤات الصحيحة قد تكون مجرد صدفة. أظهرت دراسة تلو الأخرى أن الادعاءات والتنبؤات التي قدمها المنجمون ليس لها أي ميزة، فلا يمكن تمييزها عن الصدفة، مما يعني أن المنجمين لا يمكنهم الادعاء بأن لديهم بعض القدرة على التنبؤ بمسار حياتك.
- هناك ضرر حقيقي في التنجيم؛ إنه يضعف قدرة الناس على النظر إلى العالم بعقلانية، وهي قدرة نحتاجها الآن أكثر من أي وقت مضى.
في الختام: التنجيم باطل.
الكاتب: د. فيل بلايت Philip Plait: فلكي أمريكي عمل في NASA، متخصص بالمستعرات supernova، ومهتم بنقد الخرافات المتعلقة بالفلك والنجوم./span>
المقال المترجم يتضمن معلومات يمكن الاستفادة منها، ولا يلزم من نقله موافقة الكاتب في منطلقاته أو إقرار معتقده وتوجهاته.