مقالات البيضاء

المؤامرة الحقيقية

د. جمانة محجوب

عندما أراد إبليس أن يغوي آدم وزوجه ليخرجهم من الجنة، لم يقل لهما: اكفروا بالله أو اخرجوا عن طاعة الله أو اعبدوني من دون الله صراحة، وإنما زيّن قوله ولبّسه وستره بصبغة الناصح فقال: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) وقال: (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).

والإغراء بالخلود دعوة إبليسية قديمة، ولو فككنا الخطاب الإبليسي لوجدناه غير معقول وإنما هو قائم على التهويل والكلمات الرنانة، فالخلود والملك الذي لا يبلى لا حقيقة له على مستوى المخلوق.

ومن جنس هذا الكلام الذي يعقل بعضه وبعضه لا يعقل، ما يردده الروحانيون اليوم من قولهم (كلما رفعت مستوى وعيك وأدركت حقيقتك -وكنت هنا والآن- واتصلت مع الكون- وسمعت صوتك الداخلي- واتبعت حدسك- واتصلت مع الطبيعة- ستصل إلى التحرر والتنوير والسلام والوحدة). وكلما زاد غموض الكلمات واللامعقولية، أوهمك سدنتها بأنها فلسفة عميقة تستعصي على صاحب الوعي المنخفض، ولا يفقهها إلا أولوا الوعي المرتفع، وهكذا الباطل لا يدرج إلا بنفخة من الكبر.

 وسواء كان الكلام أعلاه مفهوماً بالنسبة لك أو غير مفهوم، فهو الهدف الأسمى للروحانيين الجدد، أو فلاسفة الوعي وتطوير الذات، أو المتدروشة الجدد أو فلاسفة الصوفية القدامى أو الحلوليين أصحاب وحدة الوجود أو فلاسفة الهندوس والبوذية، سمّهم ما شئت: فملّتهم واحدة.

وعوداً على الأصل، فطريقة إبليس عند الغواية التلبيس بما يناسب المتلقي، فلن يقول لأحد أنت الرب من دون الله أو أنت الإله ولا إله غيرك؛ لكن سيأتيه على هيئة مناسبة لكل شخص، ويبدل القناع في كل مرة، كما قال تعالى على لسان إبليس: (لأزيننّ لهم)، (لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم)، (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم). فهدفه الأعظم هو غواية العباد عن الصراط المستقيم بكل الطرق وبشتى الوسائل والأساليب المناسبة لكل متلقي.

 فإذا كان متلقيه (مطوع) أتاه بلباس الدين والتطوع، فلن يقول له اترك الدين أو افعل تلك البدعة؛ بل سيأمره بالتأمل والتنفس وترديد أوراد معينة أو كتابة توكيدات إيجابية مع عدد من أسماء الله الحسنى، ويزعم أنها تزيده خشوعا أو يقينا أو طمأنينة أو استجابة لدعائه وتصفية لقلبه من الأكدار وتسخيرا لجند الله من الملائكة والخدام.. وقد يحصل له شيء مما يريد فعلا.

وإذا كان (طموحا مثابرا) سيأتيه بلباس الطموح والإنجاز وتحقيق الآمال، فلن يقول له تعال أعلمك لتصبح إلهاً من دون الله أو يقول قل (أنا ربكم الأعلى)؛ بل سيغريه بأطلق قواك الخفية وأطلق العملاق الذي بداخلك، وما تركز عليه تحصل عليه، وآمن بنفسك وقدراتك، فلا مستحيل وأنت تصنع واقعك وتجذب أقدارك، وقد يحصل له شيء مما يريد فعلا…

وإذا كان (مريضا يائسا) سيأتيه بلباس الصحة والدواء والشفاء، فلن يقول له اكفر بالشافي المعافي ولا تسأله، وستصبح أنت الشافي المعافي؛ بل سيقول أثبت العلم أن الجسم يعمل على الشفاء الذاتي وتقوم كريات الدم البيضاء بمحاربة الأجسام الضارة، فهناك تمرينات تزيد من مستوى المناعة لتحقق التشافي الذاتي، ولست بحاجة إلى الأطباء والأدوية، بل بإمكانك أن تترقى بحسب تنظيفك لطاقتك وهالاتك، ورفعك لمستوى وعيك، فتشفي الآخرين عن بعد أيضا، وكل ذلك حتى تطمئن بآيات من القرآن أو أسماء الله – وحقيقة هذا إلحاد في آيات الله– وقد يحصل له نوع من الشفاء فعلا…

وإذا كانت (زوجة أحزنها زوجها بتقصيره وجفائه) فسيأتيها بلباس الحل وطوق النجاة الذي ينقذها من الأنكاد التي تعيشها، فلن يقول لها أنت الخالق والرازق من دون الله؛ بل سيقول أنت تستحقين الأفضل رددي بيقين أنا أستحق الحب.. أنا أستحق رجلا جيدا.. اكتبيها كل يوم صباحا ومساء وردديها بيقين.. امتني لنفسك ولقلبك ولكل شيء حولك، امتني لصحتك ولسيارتك وملابسك حتى ملح الطعام اشكريه، وكوني ممتنة حتى يعود لك ما تمتنين له في تناغم وحدوي فريد.. استشعري طاقة الأنوثة وارفعي مستواها وأحبي نفسك ودلليها فلست بحاجة إلى رجل.. وإياك أن تكوني شمعة تحترق لأي أحد.. عيشي لنفسك وذاتك وسعادتك وحطمي الأصنام التي حولك.. فكل ما حولك انعكاس لأفكارك، كل هذا بثوب النصح والحلول السريعة – وكلنا يعلم أن قصد إبليس شتات الأسرة لا تقديم الحلول-، وقد يحصل لها ما تريد فعلا.

وإذا كانت (مهمومة بائسة) فسيأتيها بلباس الفرح والسعادة والأمل، فلن يقول لها أنت المانع المعطي الوهاب؛ بل سيقول استيقظي صباحا ومارسي اليوغا وتنفسي بعمق وأخرجي كل السلبيات التي بداخلك وأنت تزفرين أنفاسك، وتخيلي أنها خرجت وطارت بعيدا عنك، أو اكتبي أحزانك وهمومك على ورقة واحرقيها أو على زجاج واكسريه، فستتلاشى همومك هكذا.. أو ضعي ملح الهملايا أو علقي الكرستالات أو البسي القلادة أو خاتم الكوارتز فإنه له خاصية الإسعاد والأمل وامتصاص الهموم والأحزان، وقد يحصل لها شيء مما تريده فعلا…

فإذا رجعنا إلى حقيقة ما ذكرناه، وكشفنا غطاء الشيطان وتزيينه لكل ما سبق، ستكون المفاجأة (علمها من علمها وجهلها من جهلها): أن حقيقة الاتحاد بالمصدر أو الاندماج مع الكون أو الوعي المطلق = عقيدة وحدة الوجود الإلحادية.

وحقيقة طاقة أسماء الله والقرآن والهالات والشاكرات ورفع مستوى الوعي= فلسفة إلحادية قائمة على عقيدة وحدة الوجود.

وحقيقة أطلق العملاق الذي بداخلك وقواك الخفية = الإله بداخلك.

وحقيقة قانون الجذب والامتنان والتوكيدات الإيجابية والانعكاس = الإنسان خالق القدر والرزاق المدبر.

لذلك من غفل عن المؤامرة الحقيقية التي أخبرنا الله بها، وهي مؤامرة الشيطان وغوايته، وأنه لن يلبث حتى يحرف الإنسان عن صراط الله وعن عبادته، ولن يفتأ عن ذلك حتى تقوم الساعة؛ فإنه لن يفيق إلا في ذلك اليوم يوم يقول الشيطان: (وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَما كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إِلّا أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشرَكتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ) [إبراهيم: ٢٢]

وإذ به قد نازع الله في أخص خصائصه تعالى، ونسي قوله سبحانه: (إلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (۷۷) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (۷۸) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (۷۹) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (۸۰) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (۸۱) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: ٧٧-٨٢].

نعوذ بالله من الفتن وعمى البصيرة، ونسأل الله أن يرزقنا فرقانا مبينا نفرق به بين الحق والباطل.

۱٤٤۲هـ


*هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يمثل – بالضرورة – رأي الناشر.

المقالات الأخيرة