مقالات البيضاء

إن البغاث بأرضنا يستنسر

أ. لانا الطحان

نص قديم مشهور عند الأدباء استهل به أحد العلماء كلامه في مطلع محاضرة ألقاها على بعض طلاب العلم بيَّن فيها -رحمه اللّه- أصول وقواعد المنهج السَّلفيِّ وحُجِّيته وأمثلةً واقعيَّةً تطبيقيّةً عليه والتحذير من بعض الفِرق المخالفة له.
وبدأ المقدم الممثل للجهة الدعوية المستضيفة لفضيلة الإمام، بإلقاء كلمةٍ ترحيبية موجزة كتعبير عن مدى حفاوة أهل المنطقة الذين تشرفوا بزيارة الإمام حينها، كانت في تلك الكلمة عبارات تبين للجمهور شيئًا من مقام الضيف الكريم العلَّامة المُحدث.

فكان مما قاله -رحمه الله- في افتتاحية لقاءه العلمي:
“الحقُّ والحقَّ أقول لستُ بذاك الموصوف الذي سمعتموه آنفاً من أخينا الفاضل إبراهيم، وإنما أنا طالب علم لا شيء آخر، وعلى كل طالبٍ أن يكون عند قول النبي صلى اللّهُ عليه وسلم -:
“بلغوا عني ولو آيةً، وحدثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرجَ، ومن كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأْ مقعدَه من النارِ” أخرجه البخاري.
ومن ثم أعقب كلامه -رحمه الله- بعدم إقراره على ما قِيل حول مكانته العلمية بذكر المثل الذي هو عنوان حديثنا معكم في هذا المقال، وذلك من باب تواضعه رحمه الله وأن هذا المثل يصدق وصفه على كثير ممن يَدْعون بحق وبصواب، أو بخطأ وباطل إلى الإسلام، ولجهل الناس بحقيقة العلم وأهله وحملته قد يغترون بكثير من أدعياء العلم ويأخذون منهم الغث والسمين والله المستعان.
“إنَّ البُغاثَ بأرضِنا يَسْتَنْسرُ”، البُغاث طائرٌ أغبر دون الرخمة بطيء الطيران وهو من شرار الطير ومما لا يصيد منها [حياة الحيوان الكبرى].”

ومن المعاني المذكورة في بيان معنى هذا المثل:
” إن الضعيف يستضعفنا وتظهر قوته علينا، وعلى هذا إذا أُريد الافتخار، قيل:
” إنَّ البُغاث بأرضِنا لا يَستَنسرُ” [زهر الأكم في الأمثال والحكم].

فإذا تأملنا واقع الساحة الدعوية مؤخرًا وبالأخص مجال الإعلام تحديداً، نجد أن هناك ظاهرة متفشية دعوني أسميها “ظاهرة استنسار البغاث”، فنرى دعاةً متعالمين زادهم العقدي شحيح تسطع أنوارهم المزيفة في فضاء كثيرٍ من مواقع التواصل رغم أن ما يروجون له -في الغالب- لا يعدو كونه مجرد خرافات مزخرفة بمصطلحاتٍ علمية، فيزيائية شرعية تبهر كثيرًا من الناس للأسف وتجعلهم ينشطون لنشر تلك المزاعم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وأخص بالذكر هنا الخرافات المتعلقة بعلوم الطاقة الزائفة وتطبيقاتها التي بدأت بالانتشار مؤخراً بشكل ملحوظ.
السؤال الذي وقع في نفسي هو لمَ هذا الاغترار بتلك الرموز -البغاث- وتبني أقوالهم على أنها وحيٌ منزل لا يقبل التشكيك؟
فتبين لي أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة ساهمت في انتشار تلك الظاهرة -استنسار البغاث- وجعلت الشريحة الأكبر من العوام تقبل تلك الخرافات المشتبهة عليهم لمجرد اقترانها ببعض النصوص الشرعية، وبالمقابل نجدهم يردّون أقوال أهل الاختصاص الشرعي الثلة المباركة التي أخذت على عاتقها التحذير من أصول تلك الأفكار العقدية الوافدة التي هي منشأ الضلالات الوثنية التي نحن بصدد الحديث عن بغاثها الذين استنسروا.

من أبرز الأمور التي تؤدي إلى انحراف المسلمين عن سبيل المؤمنين -منهج السلف الصالح- في فهم النصوص وبيان أمر دين ربهم:

أولاً: عدم ضبط البدايات
من أحسنَ البدايات سلمت له النهايات، ومن كانت بدايته ونشاطه مع مبتدع، وصاحب سوء يحمله على البدعة، ويُزينها له فستكون النهاية إلى البدعة والهلاك -عياذاً بالله- وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- “إنّ من أشراط الساعة أن يُلتمس العلم عند الأصاغر” السلسة الصحيحة.

ثانياً: اتباع الشُبهات بالحدس والتخمين وجدال المنافقين وتلبيسهم
عن أبي عثمان النهدي، قال كنت عند عمر -وهو يخطب الناس- فقال في خطبته، فذكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافقٍ عليم اللسان” حديث صحيح.
وقد ورد عنه – صلى الله عليه وسلم- قوله: “ثلاثة يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون”.
والشاهد هنا “الأئمة المضلون”، لأنّهم مُطاعون ولهم سلطةٌ على الناس وفتنتهم عامة.

ثالثاً: تضليل الجاهلين
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: “سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”. رواه البخاري
وقد بين الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام (١٢٨/٣) كيف يتخذ الناس رؤوساً جهالاً فقال: “أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً، ولكن تارة يكون ذلك في جزئيّ وفرع من الفروع، وتارة يكون في كليّ وأصل من أصول الدين كان من الأصول الاعتقادية، أو من الأصول العلمية، فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كليّاتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له باديَ رأيه، من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع وعليه نبه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً يتنزعه من الناس….”.

وختاماً،
فإن أعظم أسباب النجاة من فتنة “البغاث المستنسرة” والاغترار بهم -بعد توفيق الله وعونه- تتمثل في التقيُّد بفهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من جهة كونه يضبط فهم المسلم، ويقيه من الخطأ والزلل، ويقوّم سلوكه من الاعوجاج والانحراف، ولكونه ميزاناً يضبط نسبَ المتقابلات والمتشابهات من الأمور وموازينهما، دون غلوٍ أو تقصير، أو إفراطٍ أو تفريط والله المستعان.

۱٤٤۲هـ


*هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يمثل – بالضرورة – رأي الناشر.

المقالات الأخيرة