إن من فضل الله تعالى على البشرية أن جعل الإسلام خاتم الأديان السماوية، والذي جاء بمنهاج شامل قويم في تربية النفوس وتنشئة الأجيال وتكوين الأمم، وبناء الحضارات وإرساء قواعد المجد والمدنية وتحقيق الأمن بجميع أشكاله، وما ذاك إلا لتحويل الإنسانية التائهة من ظلمات الشرك والجهالة والضلال والفوضى إلى نور التوحيد والعلم والهدى والاستقرار وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ﴿ ١٥﴾ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
تواجه أمتنا الكثير من المخاطر والتحديات والمتغيرات السريعة الشاملة لكل جوانب الحياة الدينية والعلمية، وقد عظُم الخطب، واستفحل الشر وذلك للانفتاح التقني والثقافي الذي يشهده العالم بأسره، ولعل من أخطر أنواع التحديات هو الهجوم على العقيدة، وبالرغم من أن العالم الإسلامي لازال يتمسك بالإسلام ويقر بالتوحيد، إلا أن هناك موجة خطيرة بدأت تتسلل إليه من جانب تشكيك أبناءه في دينهم وعقيدتهم.
والمتتبع للواقع في هذه الأيام يلحظ هجوماً ممنهجاً على التوحيد، في فترات غير متباعدة، حيث أن الشرك لم يعد محصوراً في صوره القديمة من سجود لصنم أو طواف بقبر، وغيرها، وإنما اصطبغ بلوثة المادية المعاصرة فأضفت عليه ألوانا وخصائص لتلتبس حقيقتها على عامة من يراها.
فهذا برنامج تلفزيوني يعرض على إحدى القنوات، يطلب مقدم البرنامج من الأطفال تعليق أمنياتهم على ما أسموه شجرة الأمنيات لتتحقق مطالبهم وأمنياتهم!
واعجباه!
أليست هذه الشجرة هي ذاتها (ذات أنواط) ولكن بصورة عصرية حديثة! أليس هذا صرف عبادة الدعاء والطلب من غير الله تعالى، أي قدح في التوحيد أوضح من ذلك والله المستعان .
ومرة ينشر بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي إعلاناً لأحجار (ثمينة) ووضعها في الماء ثم التشافي بهذا الماء وبهذه الأحجار ويدلسون على الناس بأن هناك دراسات علمية تثبت تغيير خواص الماء بتأثره بهذه الأحجار! ثم نجد أحد المروجين يدافع عن نفسه بعد الإنكار عليهم وتوضيح خطورة ذلك، فيقول بكل برود: هل ترونني أبا جهل؟! عفواً أخي الكريم أبو جهل مشرك كافر فلا غرابة من استشفائه بالحجر! أما أنت فمن بيئة تربت على التوحيد، ودعوتك للشرك بصورة عصرية أدهى وأمر!
ومرةً تناقل الناس عبر وسائل التواصل مقاطع تتناول فائدة الخشب وأحجار الملح، بل وصنع المصابيح من هذه الأحجار واستخدامها في المنزل، ومما يؤلم ترويج هذه الأفكار من بعض المصممين أو مهندسي الديكور والاعتقاد بتأثير هذه الأخشاب والأحجار على ما أسموه (طاقة المكان) وتأثير هذه الطاقة على صحة ساكني المنزل وعلى سير مختلف أمور حياتهم والجزم من هؤلاء المصممين بأن هذه المعلومات ثابتة علمياً!
وبجولة في بعض محلات المجوهرات والحلي والملابس، وحتى بعض محلات الأثاث؛ نرى العديد من التمائم الشركية، فهذه قلادة مزينة بزهرة الحظ لجلب الحظ، وتلك إسوارة من حجر الروز كوارتز للحب، وحجر السترين لجلب طاقة المال وتماثيل على شكل السلحفاة للتوفيق وغيرها من التمائم التي طرأ عليها بعض التغيير لتصبح موضة عصرية لا يغير شكلها العصري من كونها تميمة.
والحقيقة أن القائمة تطول والتي لا يمكن حصرها في مقال؛ لذا كان لزاما على المربين الغيورين على مصلحة الأمة والحريصين على حمايتها بحماية أفرادها من الأفكار المدمرة وصيانة معتقداتهم لمواجهة التحديات المعاصرة، ولنا في ذلك منهج رباني واضح في آيات القرآن الكريم، وبتأمل صفحات القرآن نجد أن الرسل والأنبياء عليهم السلام يعتنون عناية كبيرة بسلامة عقيدة أبنائهم، فهذا خليل الله ﷺ يوصي أبناءه وحفيده بالإسلام في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
وهذا يعقوبُ -عليه السلام- يستغلُّ موقفَ اجتماعِ أبنائه حولَه عندَ الموتِ فيوصيهم بالتَّوحيدِ: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، ولذلكَ كانت عقيدةً راسخةً في قلوبِ أبنائه، حتى أنَّ يوسفُ -عليه السلام- لم ينسَ الدَّعوةَ إلى التَّوحيدِ في أحلكِ الأوقاتِ، فها هو يقولُ لصاحبيه في السِّجنِ : ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
وهذا لقمانُ الحكيمُ يستغلُّ موقفَ وجودِ ابنِه معهُ وإقباله على الموعظةِ، فبماذا بدأَ؟ ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، فالتَّوحيدُ أولاً، ولا شيءَ قبلَ التَّوحيدِ.
وكذلك يعلق لقمان الحكيم ابنه بالله تعالى في كل أحواله بقوله: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.
ونلاحظ أن سورة الإخلاص التي تمثل الاعتقاد العقلي، وسورة الكافرون التي تمثل الاعتقاد العملي، هما من قصار السور القرآنية التي تتحدث عن العقيدة، فهلا تدارسناها مع أبنائنا وعلمناهم كما كان النبي ﷺ يعلم الطفل من بني عبد المطلب إذا نطق علّمه آخر آية في الإسراء ﴿وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ وتسمى هذه الآية آية العزّ فلنعلم أولادنا العزة بآية العز.
ومن فقه الأولويات وضروريات العصر: البدء بتعليم التوحيد قبل غيره للصغار والكبار، فتعليم التوحيد هو رأس العلوم وأساسها، فإذا تعلم الابن التوحيد وغُرِس في قلبه وفق المنهج النبوي؛ أتت العبادات وسائر فروع الدين تباعاً، كما يجب متابعة التعليم والمراجعة المستمرة لأصول التوحيد وربطها بالواقع والمستجدات، وليكن منهجنا كمنهج معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حينما قال لصاحبه وهو يذكره: “اجلس بنا نؤمن ساعة “، و قال عبد الله بن رواحة لأبى الدرداء رضي الله عنهما في ذلك: القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً.
فعلينا بتحصينِ أبنائِنا وبناتِنا من شبهات العقيدة واستغلالِ المواقفِ في ترسيخِ التَّوحيدِ بربِّ العالمينَ، و في التَّذكيرِ بمُراقبةِ اللهِ -عز وجل- ، وبربطها بسنة المصطفى ﷺ والتي يقول عنها ﷺ: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك».
۱٤٤۲هـ
*هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يمثل – بالضرورة – رأي الناشر.