قصاصة كتبتها فتاة وألصقتها في يدها لتنظر إليها أثناء التدريب على الإلقاء كلما ضعفت فتتقوى وتقدر!
تأملت في فعل هذه الفتاة وتذكرت أمي رحمها الله التي كانت تردد دائماً عندما نتحدث عن أمرٍ يصعب أو يبعد حصوله فتقول مباشرة: لكن ربي يقدر ﷻ.
إن التوحيد ليس تعريف نظري يحفظه المؤمن دون تحقيقه باعتقاد الجنان ونطق اللسان وعمل الأركان، فالتوحيد منهج للحياة يسعد به المؤمن بقدر تحقيقه ويقوى به قلبه وبدنه بقدر قوة إيمانه.
فمن تأمل في أذكار الصباح والمساء وأذكار المناسبات اليومية التي علمنا إياها نبينا صلى الله عليه وسلم يجدها تملأ القلب تعلقاً بمانح القوة والقدرة ﷻ وتربي المؤمن على التبرؤ من حوله وقوته واتهام نفسه بالضعف..
فعبادة التوكل التام لله تعالى وحده كما في دعاء: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”
واتهام النفس في سيد الاستغفار: “أعوذ بك من شر ما صنعت ”
ونحوها من الأذكار التي تحفظ عقيدة المؤمن من ميل أو زيغ عنه إلى غيره..
إن من الأمور التي عم البلاء فيها أن يستبدل العبد الضعيف الذي هو أدنى بالذي هو خير فيستعين بأوهن البيوت بيت العنكبوت؛ كلمات يعتمد فيها على نفسه الضعيفة!!
إذ كيف يستبدل العبد المؤمن الذي منّ الله عليه بشهادة (أن لا إله إلا الله) ذلك بالاستعانة بالله القوي القادر الذي لا يعجزه شيء! فياله من غبن وخذلان!
إن المخيف حقاً هو أصل ذلك البلاء ومصدره وهو اعتقاد فلسفي خطير بأن للكلمات طاقة وللفكرة طاقة تنطلق من الإنسان إلى الكون فتغير الواقع وتجذب ما يريد …!
وذلك منازعة لله في الربوبية حين يعتقد أن مثل هذا السبب الوهمي يجلب النفع ويجذب القوة لصاحبه!
والحق أن ذلك من الخذلان للعبد حين يصرف الله قلبه عن الافتقار إليه الذي هو لب العبودية، ويجعل السبب الرئيس للقوة الاتكال إلى نفسه التي قال خالقها فيها ﷻ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم 54]
لقد جعل ﷻ لهذا العبد الضعيف أسبابا شرعية وكونية لاستمداد القوة منها ذكره ﷻ بأنواع تشرح الصدر من الأذكار والاستغفار فالله تعالى يقول: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود 52]
ومنه بذل الأسباب الصحيحة الحقيقية والإفادة منها دون اعتماد عليها بل لابد أن يبقى قلب المؤمن الموحد محفوظا نقياً خالصاً من الاعتماد على غير الله ﷻ مسبب الأسباب وخالقها وهو الذي بيده جعلُ النفع فيها أو سلبها منها.
وحتى لا يقول قائل أن الهدف من فعل الفتاة تحفيز نفسها على القدرة فإن التحفيز ليس بترديد الكلام الأجوف وتكراره! وإنما يكون بالعمل الصحيح والسبب الصحيح، كما أن كثيرا من رموز تطوير الذات يصرحون في منابرهم ومؤلفاتهم أن هدفهم من تلك التوكيدات المزعومة ليس التحفيز للعمل وإنما تأثير الكلمة بذاتها وبرمجة العقل الباطن بمعناه الفلسفي ثم تدبيره وتنفيذه لما يريد الإنسان!
والعقل الباطن بمعناه الفلسفي فرية وهمية اخترعها الفلاسفة لتمرير ضلالات كثيرة تنازع الله ﷻ في ربوبيته وتدبيره لملكوته.
فالتحفيز للعمل معروف عند العقلاء فلو قال المعلم لتلاميذه أنتم أذكياء ونجباء ومتفوقون ثم ظهرت نتائجهم بعد الاختبارات لما تفوق إلا من بذل الأسباب الصحيحة في المذاكرة بعد توفيق الله ونفعه بالأسباب..
فالواجب أن نتعلم جميعا لآخرتنا ولحياتنا الباقية في الآخرة؛ أن توحيد رب العالمين باطن وظاهر ولا انفصام بينهما البتة فكيف يعقل أن يجمع الموحد بين ترديد كلمات تحمل معنى الاعتداد بالنفس والاستغناء بقدرتها عن ربها وهو يعتقد أن ربه وحده مانح القوة والمعين على كل ملمّة؟!
بل كيف يرجو من ربه التوفيق والإعانة وقلبه معرض عنه بما يردد من كلمات تبعده عن ربه ولا تقربه إليه.
وما أحسن قول ابن القيم رحمه الله في الفوائد:
“وَقد أجمع العارفون على أَن كل خير فأصله بِتَوْفِيق الله للْعَبد وكل شَرّ فأصله خذلانه لعَبْدِهِ وَأَجْمعُوا أَن التَّوْفِيق أَن لَا يكلك الله الى نفسك وأن الخذلان أَن يخلي بَيْنك وَبَين نَفسك، فَإِذا كَانَ كل خير فأصله التَّوْفِيق وَهُوَ بيد الله عز وجل لا بيد العبد فمفتاحه الدُّعَاء والافتقار وَصدق اللجأ وَالرَّغْبَة والرهبة إِلَيْهِ، فَمَتَى أعْطى العَبْد هَذَا الْمِفْتَاح فقد أَرَادَ أَن يفتح لَهُ وَمَتى أضلّه عَن الْمِفْتَاح بَقِي بَاب الْخَيْر مُرْتَجًا دونه”.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
۱٤٤۰هـ
*هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يمثل – بالضرورة – رأي الناشر.